مدريد تلعب ورقة التهدئة ومصير فرنسا معلق بزيارة سيجورني للرباط
مباشرة وبعد فشل زيارة وزير الخارجية الإسباني، خوسي مانويل ألبارس، إلى الجزائر، وقبل أن يتوجه رئيس حكومة مدريد إلى المملكة المغربية، كان وزير الشؤون الاقتصادية والتغير المناخي الألماني، روبيرت هابيك، قد وقع على اتفاقية لتعزيز إنتاج الهيدروجين “الأخضر”، ونقله إلى ألمانيا عبر أنابيب تصل البلدين مرورا بكل من تونس ثم إيطاليا فالنمسا.
هذه الاتفاقية تبدو للوهلة الأولى أنها موجهة بالأساس لإسبانيا، التي فشلت في استعادة وهج العلاقات الثنائية المتعثرة منذ ما يقارب السنتين منذ أن قررت مدريد التخلي عن حيادها الإيجابي بشأن القضية الصحراوية، غير أن طرفا ثالثا معنيا، وهو فرنسا، التي عجزت بدورها عن بلورة موقف مسؤول من ماضيها الاستعماري في الجزائر، مثلما تحاول اللعب على الحبلين في علاقاتها مع الجزائر أيضا.وعندما تعزز الجزائر من علاقاتها الطاقوية مع كبرى دول الاتحاد الأوروبي ممثلة في ألمانيا، فإن ما يقابلها في الحسابات الجيوسياسية هي فرنسا، التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث القوة في دول الاتحاد الأوروبي، وبعد ذلك تأتي دول الدرجة الثانية، وهما إيطاليا وإسبانيا، اللتان تتسابقان من أجل الظفر بلعب دور الموزع الحصري للغاز الجزائري في القارة العجوز.
ويبدو من خلال آخر المستجدات في علاقات الجزائر مع شركائها في دول القارة العجوز، أن هناك محورين لا يمكن أن تخطئهما أي مقاربة، يتنازعان الحصول على امتيازات أكثر مما توفره الجزائر من موارد طاقوية كبيرة لتعويض وقف استيراد الغاز الروسي عن القارة العجوز بسبب الحرب في أوكرانيا، وهما محور إيطاليا ألمانيا، والمحور الثاني المشكل من فرنسا إسبانيا.
ويتضح الأمر أكثر من خلال مراقبة حركية الدبلوماسية الجزائرية، فعندما ينشط محور الجزائر – إيطاليا – ألمانيا، فذلك يعني أن البرودة ستطبع محور الجزائر – فرنسا – إسبانيا. فمباشرة بعد فشل زيارة وزير الخارجية الإسباني إلى الجزائر وقبل أن يحل رئيس حكومة مدريد بيدرو سانشيز بالعاصمة المغربية الرباط، كان وزير الشؤون الاقتصادية والتغير المناخي الألماني، روبيرت هابيك، قد وقع على اتفاقية لتعزيز إنتاج الهيدروجين “الأخضر” في الجزائر، ونقله إلى ألمانيا عبر أنابيب تصل البلدين مرورا بكل من تونس ثم إيطاليا فالنمسا، وذلك قبل 72 ساعة فقط من نزول طائرة سانشيز في الرباط.
الاتفاقية التي وقعت في الجزائر مع المسؤول الألماني كانت واضحة ولا تحتاج إلى عناء تفكير لتفكيك رموزها، وهي موجهة رأسا إلى كل من باريس ومدريد، ومفادها أن بيد الجزائر أوراقا قادرة على قلب الطاولة على من يريد الإضرار بمصالحها.وإن كان سوء التفاهم بين الجزائر ومدريد جسده فشل زيارة وزير خارجيتها للجزائر ومحاولة استفزازها بتوجّه رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، إلى الرباط، فإن فرنسا لعبت على وتر ذاته، من خلال التصريحات التي صدرت عن وزير خارجيتها، ستيفان سيجورني، بالتقارب مع النظام المغربي، بتوجيهات كما قال من إيمانويل ماكرون، ورافق ذلك تسريبات عن موعد لهذه الزيارة إلى الرباط، لم يتأكد بعد.
الجزائر ومن خلال إقحامها كبرى دول القارة العجوز ممثلة في ألمانيا، في رهان إنتاج “الطاقة النظيفة” (الهيدرجين الأخضر)، وتصديره إلى ألمانيا عبر إيطاليا، بعدما كانت قد حسمت أمر صادراتها من الطاقة الأحفورية (الغاز) على المحور ذاته، فإنها تريد التأكيد للجانب الفرنسي ومعه الإسباني، بأن المحور الذي تنتمي إليه، سيتوسع لاحقا ويستمر لعقود، ولا يتوقف عند الطاقة التقليدية، وهي الرسالة التي يكون قد تلقفها الطرف الإسباني، الذي يبدو أنه لا يتمنى تعقيد ملف علاقاته مع الجزائر أكثر مما هي معقدة حاليا، فيما يبقى الوضع مع فرنسا معلقا على ما ستفرزه الزيارة المرتقبة لوزير خارجيتها إلى المملكة المغربية في الأيام المقبلة.
وبينما لا يزال الموقف الفرنسي من مسألة الذاكرة يراوح مكانه، سارعت الحكومة الإسبانية إلى توضيح بعض النقاط المتعلقة بزيارة سانشيز إلى المغرب الأسبوع المنصرم، والتي تحدثت عن أرقام خيالية للاستثمارات الإسبانية في المملكة المغربية، فيما بدا استفزازا للجزائر. فقد اضطر وزير النقل الإسباني، أوسكار بوينتي، إلى الخروج ليكذب مبلغ 45 مليار أورو، التي زعمت صحافة القصر العلوي، أن مدريد ستستثمرها في مشاريع بنى تحتية بالمغرب، مؤكدا بأن ما نقل بهذا الخصوص مجرد “تأويلات” لتصريحات سانشيز خلال زيارته إلى الرباط.وكتب الوزير الإسباني في تغريدة على منصة “إكس” ، جاء فيها “إن من سيستثمر 45 مليار أورو في بنياته التحتية هو المغرب، ومن يختار العقود هي شركاتنا، ولهذا السبب ذهب سانشيز إلى المغرب”، بل إنه ذهب بعيدا في انتقاد ما اعتبرها أخبارا مغلوطة وعلق على ذلك بقوله “24 ساعة من الكذب”.
ويتضح من خلال “التكذيب” الذي عممته الحكومة الإسبانية، أنها لا تريد صب المزيد من النار في علاقاتها مع الجزائر، وأنها لا تريد تعفين هذه العلاقات أكثر، لأنها تدرك أن المتضرر ستكون مصالح مدريد في الجزائر، وما عاشته الشركات الإسبانية على مدار نحو عشرين شهرا أبرز دليل على ذلك.